العلم والإلحاد
هناك اعتقاد سائد بين بعض الناس وهو أن اكتشافات العلوم الطبيعية في هذه الأيام تشكل مانعا قويا لقبول محتويات الإيمان أي المعتقد الديني بوجود الله القدير المهيمن على جميع مقدرات العالم. وبينما نلاحظ أن نمو العلوم الطبيعية والتقنية قد حدث في نفس الوقت الذي جرى فيه تقلص في المعتقدات الدينية – الا أن ذلك لا يعني أن ازدهار العلوم متوقع على أفول نجم المعتقدات الدينية أو أنه هناك تناقض حقيقي بين العلم والدين. ومن المهم لنا أن نلاحظ أن ما يسمى هذه الأيام بعلم أو بالعلوم يختص بأمور من الحقيقة لا تمس الا بصورة عرضية الأمور التي يختص فيها الدين. ونحن نميز هنا بين العلم والنظريات الفلسفية الإلحادية التي تلصق به من قبل بعض الناس. حقل العلم – أي ما يسمى بالعلوم الطبيعية المتعلقة بالعالم المادي – هو على مستوى وحقل الدين على مستوى آخر من الحقيقة. لكن هذا لا يعني أنه يجب أن نفرض وجود تناقض أو عداوة بين العلم والدين.
مثلاً يلاحظ العالم الفيزيائي وجود تناقض نظري في أحد مواضيع علمه ولكن ذلك لا يشكل أمرا مزعجا بالنسبة اليه بل انما ينظر اليه كمسألة لم تحل بعد أو انه هناك تناقض ظاهري مهم. مثلاً عندما يقوم بدراسة الضوء يجد أنه أحيانا من الملائم النظر اليه – أي إلى الضوء – كظاهرة موجية وأحيانا أخرى من الاحسن النظر اليه كظاهرة ذرية. ولكن بما أن هذا هو غير ممكن من الناحية المنطقية – أي أن يكون الضوء في تكوينه موجي وذري في أن واحد – يلجأ العلماء إلى الافتراض بأن المظاهر الموجية والذرية تشير إلى أمر آخر لم يصلوا بعد إلى تفهمه تفهما تاما.
وما ذكرناه ليس بالأمر الحديث للعلم. فلقد نصح العالم الفرنسي ديكارت والذي عاش في القسم الأول من القرن السابع عشر، نصح أولئك الذين يجدون باحثين عن الحقيقة بأن يفترضوا وجود نظام في الطبيعة أو الكون " حتى ولوكان ذلك أمرا وهميا " فذلك ضروري لأي علم أو معرفة وبعبارة أخرى أن العالم الطبيعي لا يزعج أو بالاحري لا ينـزعج عندما يعمل على استقصاء نظرية خيالية. فهو يعلم أنه وهو يقوم بتجاربه هذه قد يصل إلى اكتشاف مبدأ علمي صحيح وحقيقي. فهو لا يفترض مثلاً بأن الالكترون هو كما يوصف تماماً في الكتب العلمية المعاصرة، ولكنه يفترض بأن النظريات الحالية المتعلقة بعناصر المادة هي قريبة من الحقيقة ولذلك فإنها تساعده وهو يجد في البحث عن الحقيقة المختصة بالالكترون.
لنأخذ أيضاً نظرية النسبية. يتوجب علينا – حسب تعاليم هذه النظرية – ونحن نجابه حقائق العلوم الفيزيائية والفلكية أن نبدأ بالافتراض بأن كلا من الفضاء والزمن هما وظائف للاجسام المتحركة. وهنا يجدر بالعالم المنتمي للمدرسة القديمة – أي قبل ظهور نظرية النسبية – أن يجابه مشكلة في النظرية التي ذكرناها. ولذلك قد نسمعه يقول محتجا : كيف يمكنك الكلام عن الاجسام المتحركة قبل أن تبدا بالتفكير في الفراغ الذي تتحرك فيه هذه الاجسام؟ وبعبارة أخرى، أن فكرة الفراغ أي وجود الفراغ هي أهم من الناحية المبدئية من فكرة الاجسام المتحركة. وهذا يعني أن الفراغ يضحي كمبدأ أساسي في أي بحث معقول لطبيعة العالم المادي.
وقد نسمع العالم المنتمي للمدرسة الحديثة في علم الفيزياء يرد قائلاً : أن الزمان والفراغ هما من الأمور المجردة ولذلك يتوجب علينا بأن نفكر بطريقة أكثر واقعية وعملية. ومع أن ما ذكره العالم المنتمي إلى المدرسة الحديثة قد يظهر غير معقول الا أنه يتحتم علينا أن نفكر حسب نظرية النسبية أن شئنا أن نفهم جميع الحقائق المكتشفة في مضمار العلوم الفيزيائية في أيامنا هذه. طبعا هذا لا يعني أننا قد وصلنا إلى نظرية لا يمكن أن تبرهن في المستقبل بأنها غير صحيحة أو أنها لا تصف الحقيقة كما يجب. لكن بالنسية للمستوى العلمي الذي وصلنا اليه في أيامنا هذه نقدر أن نقول أن نظرية النسبية هي عملية ومفيدة.
ففي حقل العلوم الطبيعية يستطيع الإنسان أن يبدأ من أية نظرية بشرط أن تكون هذه النظرية أساسا لنظام منطقي وشامل ومثمر في اكتشاف حقائق جديدة وعلى الأرجح يجب أن تكون هكذا نظرية صحيحة من ناحية علم الرياضيات. وعندما نبحث في طبيعة المعرفة العلمية يمكننا أن نعرفها كما يلي : انها معرفة اختبارية منبثقة من صميم الاختبارات العلمية. هذا يعني أن الطرق المستعملة في هذه التجارب يجب أن تتصف بالدقة بحيث أن احتماًل حدوث الاخطاء يكون أمرا ضئيلا للغاية. وهكذا يمكننا الوصول إلى حقائق علمية في أي حقل من حقول العلوم الطبيعية والطرق التي يلجأ اليها في هكذا اختبارات علمية تتعلق بطبيعة الأمور التي يبحث فيها.
لكنه لا يجوز لنا أخذ طريقة معينة للبحث العلمي في حقل علمي معين ونستعملها في حقل آخر. إذن علينا كمؤمنين بالله أن نشهد بكل وضوح بأن الاسلوب – في حد ذاته – أي طريقة البحث والاستقصاء لا يشكل ولا يكون العلم، بل لكل حقل من العلوم طريقته الخاصة والمثمرة للبحث أو التجربة. وهذا ما يدفعنا إلى رفض النظرية السائدة في أيامنا هذه وهي أن ما يقوم به العلماء في مضمار العلوم الفيزيائية والبيولوجية – أي علم الاحياء بموجب أساليب معينة ومنطقية بالنسبة إلى هذه العلوم يجوز جعله الدستور الوحيد لاي بحث علمي في أي مضمار ما. والذين قبلوا هذه النظرية هم مسؤولون عن جعل علم النفس في أيامنا هذه امرا عقيما. فعالم النفس الذي انفرد في مخبره في المدة الأخيرة صار يعلم بأن الأمور العقلية هي أشكال أو مظاهر دقيقة للأمور المادية. وهكذا نجده وقد انـزلق إلى موضوع آخر فلسفي في طبيعته. أين هو موضوع الروح أو النفس؟ لم يعد لهما أي مجال في نظريات العلماء الذين سقطوا فريسة للنظرية القائلة بأن الاساليب المستعملة في الابحاث الفيزيائية تشكل في ذاتها جو هر الطريقة العلمية التي يجب أن تستعمل في كل حقل آخر. وهكذا طار العقل والروح من مفردات الكثيرين من معاصرينا وأصبحت الحياة فريسة للفلسفة المادية العمياء.
لقد ذكرنا أن هناك اعتقاد شبه سائد بين بعض المتعلمين ألا وهو أن الاكتشافات في العلوم الطبيعية تشكل في أيامنا مانعا قويا لقبول المعتقدات الدينية. وذكرنا أيضاً أن العلم عرف حسب الاساليب المتبعة في الاختبارات التي تجري في العلوم التي ندعوها عادة بالعلوم الطبيعية. وبعبارة أخرى ينظر إلى الطريقة المتبعة في العلوم الفيزيائية كجوهر الطريقة العلمية التي يجب أن تتبع في جميع وسائر حقول المعارف البشرية. وقد دفع هذا الموقف الكثيرين من معاصرينا إلى القول بأنه لا يمكن للمثقف حسب الطريقة العلمية الحديثة أن يكون متدينا ومؤمناً بالله في نفس الوقت.
والمعلومات التي نحصل عليها من العلوم الطبيعية ليس لها سلطة في الأمور الدينية. فأمور العلوم الطبيعية تبحث في نطاق ضيق من حقل المعرفة الشاسع. من المستحيل لنا القول بأن نتائج التجارب التي قام بها العلماء في مضمار العلوم الطبيعية تعطينا كل ما نود أن نعرفة عن الكون وعن أنفسنا. فنحن أن اتخذنا هذا الموقف الشإذ لابد لنا آنئذ من الاستنتاج كما استنتج بعض العلماء الملحدين بأن الإنسان هو – حسب زعمهم – غلطة كونية.
وقد صرح عالم غير مؤمن بأنه نظرا لاختباراته العلمية العديدة لم يعد هناك مجال لقبول عقيدة الله الخالق. ولكن هذا العالم الملحد لم يكن صريحا كما يجب لأنه أن كانت تجاربه قد قادته إلى ذلك الموقف فإنه كان من واجبه القول أن نظريته لم تترك مجالا ليس فقط لله تعالى، بل انه لم يعد هناك مجال فيها حتى للإنسان أيضاً. وكل نظرية لا تترك أي مجال للإنسان هي نظرية خاطئة لانها لا تعطي صورة حيقيقة للعالم الذي نعيش فيه. واكتشافات علوم الطبيعة انما تختص بالأمور البسيطة والتي يمكن السيطرة عليها بسهولة ولذلك فان النتائج التي نحصل عليها من هكذا تجارب لها أهمية محدودة في المواضيع الفلسفية التي تبحث فيها الفلسفة والمعرفة الدينية.
فبالرغم من التقدم الملموس في حقول العلوم الطبيعية نجد أن مشاكلنا الاساسية واحتياجاتنا الأولية كبشر تبقى في مصاف الأمور التي هي خارجة عن نطاق هذه العلوم. ومن المستحيل لنا كبشر أن نحيا على مستوى الأمور المادية – تلك الأمور التي هي ضمن نطاق المعرفة الفيزيائية.
ومن المهم أن نلاحظ أن الذين لا يؤمنون بالله ولا بأمور ما فوق الطبيعة (أي ما يسمى أحيانا بالأمور الغيبية). يبدأون هم أيضاً من بديهيات لا يمكن برهانها فيزيائيا وهم يشرعون في تفحص أمور الطبيعة. ولذا نقول أن موقفهم هذا ليس بموضوعي كما يدعون. على العكس انهم يعملون حسب تعاليم فلسفة حتمية آمنوا بها مسبقا وعملوا بمنطقها. والتجرد الذي يزعمون أنه يصاحبهم في كل ما يقومون به هو موضوع خيالي بحت.
ليس هناك أي شيء ضمن معرفتنا للأمور الطبيعية والذي يمنعنا من فرض وجود كائنات عاقلة تعمل اما للخير أو للشر وتتدخل في شؤون البشر. ونظرا للاكتشافات العديدة التي جرت في أيامنا وللمشاكل التي نتجت عنها أصبح عالمنا هذا أكثر اكتظاظا بالأسرار والغوامض من عالم الامس. وهذا بدوره لا يؤول إلى جعل الإيمان الديني أقل واقعية، على العكس، عالمنا هذا يشير بكل وضوح إلى وجود هدف وغاية ونظام رائع حتى ضمن الذرة التي لا نشاهدها بالعين المجردة. فمن هو واضع هذا النظام البديع والدقيق؟ أليس هو الله القدوس السرمدي الاله الواحد القدير والمهيمن على جميع مقدرات الكون؟
فما هو الدافع الذي يحدوبالكثيرين من معاصرينا بأن يقولوا أن العلم والدين لا يتفقان؟ هل السبب كائن ضمن طبيعة الإيمان أو طبيعة العلم؟ كلا. ليس هناك سبب كامن ضمن المعرفة العلمية والذي يجعل الإيمان أو المعتقد الديني أمرا غير معقول. فجميع النظريات العلمية عن كيفية تحرك الاجساد السماوية والأرضية ليس لها علاقة بالموضوع الاساسي في الدين ألا وهو وجود الله تعالى اسمه. فالنظريات التي تعرف بالعلمية والتي تحاول تفسير مواضيع طبيعية بحتة لا تمنع الإنسان – نظريا – عن الاستمرار في قبول المعتقد الديني أو الإيمان باله قدير ومهيمن على الكل. أن العلم لا يعادي الدين، ولكنه هناك علماء يعادون الدين وهم يقومون بذلك لا نظرا لكونهم علماء بل لنفس السبب الذي يحدوا بالكثيرين من الناس الذين لم يتقفوا ثقافة جامعية على محاربة الدين : انهم ملحدون لان قلبهم المظلم يدفعهم للهرب من الله ومن مطاليب شريعته المقدسة.
ان البشر – وهذا يضم العلماء – هم قبل كل شيء مخلوقات مدفعوعة من قبل الميول أكثر بكثير مما هي مدفوعة من قبل العقل والمنطق. وهكذا إذا أردنا معرفة السبب الحقيقي للالحاد فان ذلك يظهر كامنا لا في أسباب منطقية بل في دوافع نفسية أي سيكولوجية. ولا بد لنا من القول أن النموالكبير الذي جرى في العلوم الطبيعية في نفس الوقت الذي انتشر فيه الإلحاد لا يعود إلى وجود علاقة مباشرة بين هذين الموضوعين. وكذلك هذه الظاهرة المؤلمة لا تعني أن الإيمان بالله صار أمرا مستحيلا في هذه الأيام. على العكس، كل ما جرى هو أن الاكتشافات العديدة التي جرى تطبيقها في حقول علمية عديدة كالطب والصناعة وسعت الآفاق التي يعيش فيها الإنسان وصار اهتمامه غير منحصر بالأمور التي كان يهتم به الآباء والاجداد. وبما أن العديدين من الناس الذين تخصصوا في الحقول العلمية كانوا قد ابتلعوا تعاليم الفلسفات الإلحادية، فان الكثيرين من الناس صاروا يظنون بأن العلم والدين لا يتفقان.
ما العمل إذن ونحن نجابه هذا الواقع المؤلم؟ علينا أن نجاهر بكل وضوح أنه لا العلم كما يعرف في أيامنا ولا المعرفة بشتى حقولها المتعددة بل أن عبادة الإنسان للمادة وكبرياءه، هذه هي المسؤؤلة عن أزمة عالمنا المعاصر هذا العالم الشإذ، اللاديني في تفكيره وفي فلسفاته وايديولوجياته. وكما قال السيد المسيح أن عدوملكوت الله الدائم هو محبة المال – لا العلم ولا المعرفة. أن فطنة الإنسان وعلمه لم يكونا مطلقا عائقين يقفان في سبيل قبوله للمعتقدات الدينية. فخسارة الإيمان الديني لا تعود لو جود إيمان غيبي أو فوق طبيعي آخر يضار على الإيمان الديني ويتغلب عليه. رفض الإيمان بالله هو قبل كل شيء عبارة عن عدم رغبة الإنسان المعاصر في العيش بطريقة تتلاءم مع مطاليب الله من الإنسان وبكلمة أخرى، يهرب الإنسان من الله لأنه لا يريد بأن يعيش في حضرة الله ولا أن يحمده في جميع نواحي حياته. ويطلي الملحد المعاصر موقفه السلبي والعدائي من الله بطلاء فلسفي شبه علمي فيعلن للملأ بأن العلم والدين لا يتفقان. بينما كان من الاصح له أن يقول أنه كان قد صمم مسبقا بأن يعادي الله لأنه لا يرغب في العيش مع الله ولله.
- عدد الزيارات: 3762