سر التألم -3
المؤمن المتألم لا يترك إيمانه نظرا لتلبد جو حياته بغيوم سوداء. على العكس، يتعلق المؤمن والمؤمنة بالإيمان بالله وينتظران منه العون والنجاة. ليس هناك من حل لمعضلة الحياة أو لسر التألم أن تخلى الإنسان عن إيمانه بالله القادر على كل شيء.
وسنبدأ الآن بالبحث في بعض الاجوبة التي جاء بها الإنسان في العصور القديمة وفي العصور الحديثة والمتعلقة بسر التألم أو الآلام. وسنقوم بقياس جميع هذه الاجوبة البشرية بمقياس تعاليم الوحي لاننا لا نود الكلام عن هذا الموضوع لمجرد انماء معرفتنا بأمور تاريخية أو دينية عامة. غايتنا هي الوصول إلى الحقيقة الموحى بها من الله عن موضوعنا هذا لكي نتقوى في الإيمان ولكي نتسلح لمجابهة أية آلام أو عذابات قد تأتي علينا في المستقبل.
أعتقد البعض منذ القديم بأن الإنسان يتألم ويتعذب في هذه الحياة بناء على الشرور التي ارتكبها في حياة ماضية أو سالفة. مثلاً أن وجدنا إنسانا أعمى وتساءلنا لماذا ولد هذا بدون نعمة البصر فأن الجو اب – حسب هذا المعتقد القديم والمقبول حتى الآن في بعض أنحاء العالم – هو أن هذا الإنسان يقاص نظرا لشر ارتكبه في حياته الماضية. وهذا المعتقد يخالف تماماً تعاليم الوحي التي هي واضحة كل الوضوح والتي تنص بأنه ليس هناك من تناسخ الارواح أو من رجوع الارواح إلى هذه الحياة لتسكن في أناس جدد أو في حيوانات مختلفة. ليست هناك من حياة سالفة أو ماضية : جميعنا نولد مرة واحدة على هذه الأرض وعندما يموت الإنسان لا يرجع إلى هذه الدنيا من جديد، بل يذهب اما إلى النعيم أو إلى الجحيم بانتظار اليوم الأخير، يوم القيامة الرهيب. وفوق ذلك ليس هناك من إنسان يستطيع بأن يتذكر وجودا سابقا كان قد اختبره على هذه الأرض. فهل من المعقول لنا تفسير سر الألم باللجوء إلى هكذا معتقد فلسفي وثني؟
وذهب آخرون إلى القول بأن الآلام والعذابات التي تحيق بالإنسان انما هي نتيجة لو جود إنسان المستقبل وأن نهاية الآلام تكمن في نهاية الإنسان ككائن خاص وذوبانه أو رجوعه إلى الوجود الكي أو الكون. وبعبارة أخرى، يرتكز هذا المعتقد على عدم الاقرار بالله الواحد السرمدي الذي هو مستقل عن الكون، هكذا معتقد يلخص بالقول : الله هو الكل والكل هو الله. وهكذا تزال الحدود الفاصلة بين الخالق والمخلوقات ويؤله الكون المادى بما فيه الإنسان. وكمؤمنين بعقيدة الله الواحد السرمدي الخالق لكل ما في الوجود والذي برانا على صورته وشبهه، ننبذ هذه العقيدة الوثنية وكل مبدا منبعث عنها مهما ظهر هذا المبدأ براقا ومساعدا لحل سر الألم.
وهناك مدرسة أخرى تحاول تفسير سر التألم وهي المدرسة الأبيقورية (نسبة إلى أحد فلاسفة الاغريق القدماء).. تعلم هذه المدرسة الفلسفية أنه من المستحيل للإنسان إبعاد الآلام والعذابات عن حياته، فلذلك يتوجب عليه بأن يغرقها (أي هذه الآلام). بالأكل والشرب والمرح. وبعبارة أخرى، يعلم دعاة هذه المدرسة بأنه يمكننا الهرب من الآلام باللجوء إلى حياة الملذات والترف. ولكن هذا الموقف هو موقف سطحي جدا لاننا لا نحل مشكلة ما بالهرب منها. الأكل والشرب والترفه وكل ما يذهب اليه الإنسان للحصول على ملذة وقتية، هكذا أشياء لا تساعدنا مطلقا على تكوين موقف حميد من موضوع التألم والآلام. ومن الجدير بالذكر أن الناس في هذه الأيام كثيراً ما يظهرون ولاءهم للفلسفة الابيقورية وان لم يكونوا قد درسوا مبادئها! يذهب الناس إلى فض مشاكلهم الحياتية بواسطة انكبابهم على الملذات مؤجلين إلى أجل غير مسمى مجابهتهم لموضوع الآلام بطريقة جدية.
ان كانت الحلول التي أتينا على ذكرها ليست بحلول نظرا لكونها منبعثة عن مبادىء غير موجودة في الوحي الإلهي، فما هو الطريق الذي علينا السير عليه للوصول إلى الحل الصحيح؟ قد يكون الجو اب : أن الآلام التي تنصب على الإنسان هي بمثابة دينونة الله العادلة التي تأتي بصورة بديهية على كل متعد للشريعة الإلهية. كل ألم وعذاب يختبره الإنسان انما هو نتيجة لتعديه على المشيئة الإلهية. هذا الجو اب هو صحيح لدرجة ما ولكنه لا يمكننا النظر اليه كالجواب الوحيد الذي يمكن أن تعطيه للذى يبحث في سر التألم.
لولم يثر الإنسان على الله في البدء لما دخل الشر إلى العالم ولما كانت هناك آلام ولا عذابات تنصب على البشر. هذا تعليم واضح وصريح نستقيه من الوحي الإلهي. ولكننا عندما ننظر نظرة واقعية على العالم المحيط بنا في حالته الحاضرة لا يمكننا القول بأن هناك معادلة بين كمية الآلام التي تصيب الإنسان والاخطاء التي قد يكون الإنسان ارتكبها. كلنا نعلم بأن بعض الناس الاشرار والذين لا يخافون الله يعيشون حياة خالية من الآلام – على الأقل لمدة ما. وبعبارة أخرى، لم يكون الله عالمنا ولا يقود تعالى أمور الحياة البشرية بهكذا صورة حتى أن كل تعد على الوصية الإلهية يعاقب أو توماتيكيا وبسرعة فائقة!
وفوق ذلك، عندما نأخذ بعين الاعتبار تعليم كلمة الله عن قداسة الخالق وسموه، لابد لنا من الاقرار بأن الإنسان في هذه الحياة وعلى هذه الأرض لا يعاقب من الناحية الكمية ولا من ناحية الشدة بالنسبة إلى عظم وفداحة شره. يستحق الإنسان أكثر تأديبا من الله – أن كان بمقدورنا الكلام على هذا المنوال – عندما يتعدى على شريعة الله. وبكلمة أخرى، عندما يعاقب الله الإنسان على شر ما فإنه تعالى يظهر في نفس الوقت رحمته وغايته هي ارجاع المذنب إلى صوابه. يعلمنا الوحي الإلهي بأن الله لا يسر بموت الخاطىء بل بتوبته ورجوعه إلى جادة الحق والصراط المستقيم.
وهكذا أن قلنا بأنه هناك علاقة بين آلام وعذابات الإنسان والشر والخطية فأننا نقر بوجود علاقة عامة ولا نكون آتين بمبدأ آلي وكأن الإنسان يتألم دوما بالنسبة إلى شروره وآثامه. فقد يتألم الإنسان في كثير من الأحيان بدون أن يلم بوجود أية علاقة ارتباطية بين آلامه والحياة التي كان يحياها. يتألم الإنسان في كثير من الاحيان لا لأنه ارتكب مخالفة معينة للشريعة الإلهية، بل لسبب مجهول. وهذا الذي دفعنا إلى القول بأنه هناك سر في موضوع الألم والتألم!
- عدد الزيارات: 2230