محور الحياة البشرية
في إحدى الروايات الواقعية التي حازت شهرة كبيرة في الادب العالمي المعاصر والتي جرت حوادثها في مستشفى كبري، اخذ المرضى يتناقشون في موضوع الحياة البشرية. طرح أحدهم هذا السؤال : " ما هو الشيء الذي به يحيا الإنسان؟ فقد كان الجميع في ذلك المستشفى الخاص يواجهون الموت أكثر من بقية الناس ولذا كانوا يتحادثون في عدة أمور حياتية وبصورة جدية للغاية. فحدث أن قال أحدهم وبصوت قوى سمع في سائر أنحاء الغرفة الكبيرة : " ما هو الشيء الذي به يحيا الإنسان؟ "
أخذت الأجوبة تأتي من كل جانب وكان كل مجيب يتكلم من وجهة نظر معينة أو من قبل فلسفته الحياتية الخاصة. فقال أحدهم وهو يعكس اما فكرته السطحية أو سطحية الاخرين من بني البشر. قال : " يحيا الإنسان بالمأكولات والملبوسات! " لم يكن هذا الجو اب مقنعا لان البقية كانوا يعلمون من قرارة قلوبهم ومن اختبارات الحياة بأن المأكولات والملبوسات – مع أهميتها النسبية–ليست هي التي يحيا بها الإنسان! فالإنسان بحاجة إلى أكثر بكثير من طعام وكساء.
وقال مريض آخر : " يحيا الإنسان بواسطة راتبه، ربما كان هذا إنسان قد جاهد أثناء حياته بكل مشقة للحصول على ضروريات الحياة ولم يكن مدخوله كافيا لسد حاجاته وكان يتمنى كثيراً بأن تتحسن حالته الاقتصادية ولذلك قال ما قال وان كان جو ابه لم يقنع لا ذاته ولا الآخرين!
وقال آخر وهو يتأمل بصورة خاصة في البعد المادى / الجسماني لحياة الإنسان، قال بصورة يمكن وصفها بأنها لم تكن جدية تماماً : " الإنسان يعيش بواسطة الهواء والماء والغذاء " ومع أنه كان مصيبا إلى درجة ما وذلك فيما يتعلق بالناحية المادية من الحياة البشرية الا أن السؤال لم يكن يتعلق بذلك مطلقا. ما هو الشيء الذي به يحيا الإنسان؟ طبعا الإنسان يحتاج إلى هو اء وماء وغذاء ولكنه يحتاج إلى أكثر من هذه فهو ليس بنبات ولا بحيوان أعجم!
قال مريض آخر : " يعيش الإنسان بواسطة صنعته أو حرفته أو وظيفته " وهذا صحيح إلى درجة ما لأن الإنسان لا يمكن أن يعيش بدون عمل أو شغل وشخصيته البشرية لا تنمووتترعرع بدون عمل ما، عمل تبرز إلى الوجود سائر الطاقات الكامنة فيه. ومع أهمية صنعة الإنسان أو حرفته أو وظيفته الا انها لا تستطيع أن تكون محورا لحياته. إذ انه أن لم يكن هناك سوى العمل والكد والشغل من يوم إلى آخر وبصورة متوالية ومضنية فأن العمل يكون قد انقلب إلى عبودية غاشمة وإلى استعمار بغيض.
وقال أخر : " يحيا الإنسان بواسطة أسرته وآل بيته " وكان يشير ذلك المريض إلى أهمية موضوعه الذي لم يكن قد ألمح اليه المتكلمون الذين سبقوه. أليست أسرة الإنسان وعائلته المحور الهام الذي تدور عليه الحياة؟ إلى درجة ما كان الجو اب صحيحا، ولكن الإنسان الذي لا يرى سوى أسرته وآل بيته والذي لا يهتم بالحياة الاجتماعية والإنسانية لهومخلوق أناني للغاية. وليست الانانية بذلك الشيء الذي يحيا به الإنسان!
قال مريض آخر وكان يعد نفسه أكثر علما وثقافة من البقية : " الإنسان يعيش بواسطة ايديولوجيته ومصالحه الاجتماعية " وكان هذا الإنسان متجها نحو الجواب الصحيح إذ انه أشار بواسطة جو ابه إلى حاجة الإنسان إلى مثل أعلى أو عقيدة حياتية ذات أفق واسع. ولكن الايديولوجية قد تكون مصيبة أو خاطئة بالنسبة إلى الاساس الذي بنيت عليه. ولذلك فإن مجرد القول بأن الإنسان يحيا بايديولوجيته وبمصالحه أو بأموره الاجتماعية لا يكفي!
وأخيرا قال بطل الرواية مستندا إلى كلمات وردت في رواية شهيرة كتبت في القرن التاسع عشر : " ما هو الشيء الذي به يحيا الإنسان " ؟ بواسطة المحبة! ثم أخذ البطل المريض يتكلم عن أهمية المحبة وهي الفضيلة التي يفتقر إليها العالم في كل زمان ومكان. المحبة التي لا تبحث عن المنفعة الذاتية والتي لا تتوانى عن التضيحة في سبيل الخير العام! نعم المحبة، ما أحلاها من فضيلة وما أجملها!
ولكن المحبة بدورها بحاجة إلى أساس قوى ومتين وصحيح. على أي أساس تبنى المحبة؟ ولماذا نجدها نادرة جدا بين الناس؟ وأين هو منبع المحبة؟ هذه الأسئلة وما يشابهها تقودنا إلى القول بأن الإنسان المعاصر الذي يبحث عن محور لحياته وعن حلول لمشاكله المتكاثرة قد نسي بأن الإنسان لم يخلق لذاته. خلق الإنسان ليعيش في عالم الله ولتكون له شركة مع ربه وخالقه. خلق الإنسان ليعيش في عالم الله. ما أندر بأن نسمع الناس يتكلمون عن عالمنا هذا كعالم الله، إنهم يتكلمون وكأن الإنسان وحيد في هذا الكون وفي هذه الدنيا!
وهكذا إذ نسأل السؤال المثيرى : " ما هو الشيء الذي به يحيا الإنسان؟ " فإنه يجدر بنا أن نتذكر أن الجو اب قد أعطى لبني البشر منذ القديم منذ أيام موسى كليم الله. فقد ورد في التوراة " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله " وقد ردد السيد المسيح هذا الجو اب ذاته عندما جابه الشيطان في برية اليهودية " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله "
" ما هو الشيء الذي به يحيا الإنسان؟ " يحيا الإنسان بواسطة كلمة الله تلك الكلمة التي هي منبع كل فضيلة ومنها ملكة الفضائل أي المحبة! فهذه الكلمة الإلهية هي الواسطة التي يعرف الله بها ذاته لنا نحن مخلوقاته العاقلة. كلمة الله تنبؤنا عن حالتنا التعيسة وكذلك تبشرنا بالخبر المفرح بأن الله عمل لنا خلاصا جبارا وفداء تاما بواسطة السيد المسيح الذي وفد عالمنا وعاش في الأرض المقدسة وانتصر على سائر قوى الشر والظلام.
عالمنا اليوم لهو بحاجة ماسة إلى الجو اب الصحيح للموضوع الذي تناقش فيه المرضى في المستشفى. ما هو الشيء الذي به يحيا الإنسان؟ يحيا الإنسان بواسطة كلمة الله المحررة التي هي الاساس الوحيد للسلام والوئام بين أفراد البشرية. ومتى عاش الإنسان بواسطة كلمة الله فان سائر ضروريات الحياة تؤمن له من قبل الله المحب.
- عدد الزيارات: 2655