Skip to main content

تأملات في الحياة

رسالة النبي هوشع

قال السيد المسيح للمجرب الشيطان " لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيا الإنسان بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللَّهِ " وهذا يعني أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا فقط على الصعيد المادى بل انه بحاجة إلى إيمان وعقيدة أو معتقد لكي يستطيع العيش كإنسان. وهنا نجد أنفسنا أمام هذا الموضوع : أن كان الإنسان لا يستطيع أن يحيا فقط على الصعيد المادى فأية كلمة عليه أن يؤمن بها ويحيا بمقتضى تعاليمها؟ كلمة الله أو كلمة البشر؟

وهذا الموضوع لا يبقى موضوعا نظريا لأننا نعلم علم اليقين أن الله تعالى اسمه قد تكلم مع بني البشر منذ القديم وانه أرسل الأنبياء لتبليغ الإنسان فحوى الرسالة السماوية التي اؤتمن عليها الأنبياء. لقد تكلم الله بواسطة النبياء وقد حفظت لنا رسالات الأنبياء في كتاب الله ولذلك لا يجوز لنا أن نتساءل : كيف نعرف كلمة الله أو ما هي الارادة الإلهية. تكلم الله بالأنبياء وحفظ كلامه في كتب الأنبياء. وهكذا فان كلمات المسيح بأن الإنسان لا يحيا فقط بالخبز بل بكل كلمة تخرج من فم الله انما تعني انه من واجبنا أن نصغي إلى تعاليم الأنبياء فيما إذا أردنا أن نعرف المشيئة الإلهية لحياتنا اليوم.

وإذ كنا في المدة الأخيرة قد تأملنا مليا في كتب الحكمة التي نجدها في الكتاب المقدس وإذ بنينا بحوثنا على سفر أمثال سليمان وسفر الجامعة فاننا سوف نبدأ الآن بالتأمل في رسالات الأنبياء الذين يدعون بالأنبياء الصغار لا لأنهم كانوا أقل أهمية من الأنبياء المدعوين بالكبار بل لأن كتبهم كانت اصغر من كتب الأنبياء الكبار. ونبدأ بالقول بأن النبي هو المتكلم باسم الله الحقيقي بخصوص أيامه وكذلك بخصوص أيام المستقبل. النبي هو الذي يعرف الشعب بمشيئة الله وارادته ولكن أفق رسالته ليست محدودة بأيامه فقط بل انها تتعلق بالمستقبل حتى بأيام الأبدية. ومع أن لكل نبي رسالته الخاصة الا أن هذه الرسالة النبوية تبحث دوما في حاجة الإنسان الماسة للعيش حسب الارادة الإلهية وفي ضرورة الابتعاد عن الوثنية والصنمية بشتى أشكالها ومظاهرها.

وهذه هي اسماء الأنبياء الصغار الأثني عشر كما ترد في الكتاب المقدس وفي القسم المدعوبالعهد القديم :

هوشع، يوئيل، عاموس، عوبديا، يونان، ميخا، ناحوم، حبقوق، صفنيا، حجي، زكريا، ملاخي. وقد عاش هؤلاء الأنبياء في أرض فلسطين وتنبأوا من القرن الثامن حتى القرن الرابع قبل الميلاد.

ومن الجدير بالذكر أن حالة البلاد كانت سيئة من الناحية الروحية والأخلاقية والسياسية والدولية في تلك الأيام. فبعد وفاة سليمان الحكيم حدث أن انقسمت المملكة إلى قسمين : القسم الجنوبي بقي فيه أسرة سليمان أي أن ملوك القسم الجنوبي كانوا من نسل الحكيم ودعيت مملكتهم بمملكة يهوذا وكانت القدس عاصمة هذه المملكة الجنوبية. أما المملكة الشمالية فإنها كانت تعرف باسم مملكة اسرائيل وحكمها ملوك من أسر مختلفة وكانت تتنافس في كثير من الأحيان مع المملكة الجنوبية.

والأنبياء الذين دعاهم الله لتأدية رسائلهم في فلسطين انما تنبأوا في كل من مملكتي يهوذا واسرائيل وان كانوا من الناحية الرسمية غير معترفين بالمملكة الشمالية لأنها كانت قد ابتعدت منذ نشأتها عن العبادة الحقيقية لله وأخذت تمنع الناس عن الذهاب إلى القدس في أيام الأعياد والمناسبات الخاصة.

عالج الأنبياء مواضيع أيامهم حسب الدعوة الإلهية التي استلموها من الله وهكذا فان مناداتهم بكلمة الله والكلمات التي دونت فيما بعد وحفظت لنا في الكتاب المقدس، أن تلك كانت ولا تزال قسما هاما من الوحي الإلهي. ومع أن رسالة الأنبياء كانت لشعب معين وفي وقت معين من التاريخ البشرى وفي بقعة جغرافية صغيرة الا أن المبادىء الروحية والأخلاقية المنبثقة من رسالتهم هي هي لا تتغير ولذلك فاننا نرجوبأن ندرس بعض النقاط من تعاليم الأنبياء الأثني عشر. وإذ نقوم بذلك فاننا لا نضع نصب أعيننا مجرد زيادة معلوماتنا الدينية / التاريخية بخصوص ما جرى في وسط العالم منذ نحو ألفين وخمسمائة سنة! نحن نتأمل في كتب الأنبياء لكي نسمع كلمة الله ولكي نحيا بواسطتها، لأننا كبشر وكما قال المسيح، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله. هذه أيام كثرت فيها وتكاثرت كلمات الإنسان ونحن بحاجة ماسة إلى سماع لا كلمات مصدرها العقل البشرى المحدود بل الله خالق السموات والأرض وسيد العالمين.

وإذ نشرع اليوم بدراسة رسالة أو ل نبي من قائمة الأنبياء الصغار الأثني عشر أي إذ نبدأ بالتأمل في تعاليم هوشع النبي نقول انه عاش في القرن الثامن قبل الميلاد وفي المملكة الشمالية التي كانت تعرف آنئذ باسم مملكة اسرائيل. ومعنى اسمه الذي هو عبري : الله مخلصنا وهو يشبه من هذه الناحية اسم يشوع وهو القائد الذي عينه موسى النبي قبيل وفاته والذي جاء ببني اسرائيل إلى أرض كنعان.

وسنركز أفكارنا على ثلاثة مواضيع ونحن نتأمل في سفر هوشع النبي :

1. ان للرب محاكمة مع سكان الأرض : كان هوشع ينادى في القسم الشمالي من بلاد فلسطين ويقول " اسمعُوا قَوْلَ الرَّبِّ يا بَنِي إِسْرَائِيلَ : «إِنَّ لِلرَّبِّ مُحَاكَمَةً مَعَ سُكَّانِ الأرض لأنه لاَ أَمَانَةَ وَلاَ إِحْسَانَ وَلاَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ فِي الأرض " وبعبارة أخرى كان يقول لمعاصريه : الله غير راض عنكم. انكم لا تسرون الله فهو تعالى يريد أن يأتي بكم إلى المحاكمة! ولكن هل يجوز لنا نحن سكان القرن العشرين أن نقول : كلمات هوشع النبي كانت موجهة فقط لسكان القسم الشمالي من بلاد فلسطين ومنذ ما يقارب ثلاثة آلاف سنة؟ أم هل نسمع شخصيا كلمات النبي فنقول : انها تنطبق علينا أيضاً في هذه الأيام؟ " لِلرَّبِّ مُحَاكَمَةً مَعَ سُكَّانِ الأرض " الأرض بأسرها نعم المسكونة كلها عليها الآن أن تظهر أمام الرب للمحاكمة! "
ولكن على أي أساس تستدعى المسكونة أو الأرض لكي تظهر أمام الله للمحاكمة؟ أهناك ذنب معين ومعروف؟ لنصغي إلى كلمات هوشع التي قيلت أولاً بخصوص معاصريه من مملكة اسرائيل الشمالية " لأَنَّهُ لاَ أَمَانَةَ وَلاَ إِحْسَانَ وَلاَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ فِي الأرض " يا لها من تهمة خطيرة لا أمانة ولا احسان ولا معرفة الله! ولكن هل يمكننا أن نقبل هكذا كلمات أم هل كان النبي مندفعا فتكلم أكثر مما طلب منه الله؟ حاشا، لم يتكلم النبي الا بما طلب منه الله ولم يكن وصفه لسكان الأرض الا وصفا واقعيا. لندعه يسرد لنا لائحة الخطايا التي كانت ترتكب نظرا لانعدام الأمانة والاحسان ومعرفة الله. قال النبي : لعن وكذب وقتل وسرقة وفسق، يعتنفون ودماء تلحق دماء!، هناك أسباب قوية لاجراء محاكمة مع سكان الأرض لأن انعدام الفضائل انما اعطى مجالا لظهور الخطايا الشنيعة التي أتى النبي على ذكرها. نعم أن للرب محاكمة مع سكان الأرض، مع سكان الأرض في أيامنا هذه أيضاً لأن ما تكلم عنه هوشع النبي لا يزال يجرى إلى أيامنا هذه : لعن وكذب وقتل وسرقة وفسق.. أن للرب محاكمة مع سكان أرض القرن العشرين!

ولكن كيف يمكن للبشر وخاصة للذين كانوا قد استلموا الوحي الإلهي منذ أيام موسى النبي، كيف يمكن لهؤلاء ولأولئك بأن يصلوا إلى هذه الحالة المحزنة؟ هل تستطيع أن تعطينا يا نبي الله هوشع، هل بمقدورك أن تعطينا تفسيرا منطقيا لهذه الحالة المحزنة التي كانت سائدة في أيامك والتي لا تزال تعكر صفوالحياة البشرية حتى يومنا هذا؟ وجواب النبي هو (وهنا علينا أن نذكر أن الله هو المتكلم بواسطة فم النبي). " 6قَدْ هَلَكَ شَعْبِي مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ. لأَنَّكَ أَنْتَ رَفَضْتَ الْمَعْرِفَةَ أَرْفُضُكَ أَنَا حَتَّى لاَ تَكْهَنَ لِي. وَلأَنَّكَ نَسِيتَ شَرِيعَةَ إِلَهِكَ أَنْسَى أَنَا أيضاً بَنِيكَ "

يا لها من كلمات صريحة للغاية، كلمات الله هذه! لقد هلك الشعب من عدم المعرفة. ما معنى هذه الكلمات؟ كان الناس في أيام النبي هوشع قد وقعوا فريسة للعبادة الوثنية التي كانت سائدة في سائر البلاد المحيطة بفلسطين. وجرى سقوطهم أولاً لآنهم أخذوا يعبدون الله متكلين على تماثيل حسية لله فاستعملوا العجل وهم يعبدون الله. ولكن الله كان قد علمهم بكل صراحة في الوصايا العشر وقال لهم بواسطة موسى النبي " لا يكن لك آلهة أخرى أمامي! لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً.. لا تسجد لهن وتعبدهن. " الله العليم بكل شيء وخاصة بقلب الإنسان الخاطيء والمظلم منع شعبه في أيام النظام القديم من اللجوء إلى عبادته على طريقة عابدي الأصنام. فالانـزلاق في خطية الوثنية يبدأ بالتساهل هنا وهناك ويتم بصورة تدريجية : أولاً العبادة على طريقة عابدي الأوثان ثم الحياة على طريقة عابدي الأوثان.. نعم كان الناس يهلكون روحيا من عدم المعرفة. ويجدر بنا أن نذكر أن الأصنام لا تزال في دنيانا هذه وان كانت في كثير من الأحيان غير منظورة. فعلينا إذن أن نذكر أن معرفة الله معرفة حقيقية هي تلك المعرفة التي لا تكتفي بالوقوف النظري على محتويات الوحي الإلهي بل انها تتعدى ذلك فتصبح محبة شديدة لله تلك المحبة التي تكتفي بما أمر به الله وتمتنع عما نهي عنه الله. وكما أن خطية الزنى هي خطية كبيرة ومدمرة للإنسان في حياته الأخلاقية هكذا أيضاً الوقوع في خطية عبادة الأصنام : يعد الله عبادة الأصنام زنا روحيا!

3. لم يكتف النبي هوشع بالكلام عن خطايا بني جنسه بل ذكر لدى نهاية سفره موضوع الشفاء من الخطية وكما ذكرنا سابقا أن اسمه يعني : الله مخلصنا. قال هوشع في الفصل الرابع عشر من نبوته " 1 ارْجِعْ يا إِسْرَائِيلُ إلى الرَّبِّ إِلَهِكَ لأَنَّكَ قَدْ تَعَثَّرْتَ بِإِثْمِكَ. 2خُذُوا مَعَكُمْ كَلاَماً وَارْجِعُوا إلى الرَّبِّ. قُولُوا لَهُ : «ارْفَعْ كُلَّ إِثْمٍ وَاقْبَلْ حَسَناً فَنُقَدِّمَ عُجُولَ شِفَاهِنَا "

ان الله لا يزال يكلمنا اليوم بواسطة كلمات الأنبياء يطلب منا نحن أيضاً أن نعود إليه. العودة إلى الله، هذا هو الدواء الذي يقدمه لنا الله ويطلب منا أن نستعمله لنشفى نحن أيضاً من آثامنا وأخطائنا.

ولكنك قد تقول لي أيها القارئ العزيز : أنا لا أجد في قوة روحية كافية ومعنوية للرجوع إلى سبيل الله وللسير على طرقه المستقيمة ولإبعاد صنمية القرن العشرين عن أفكارى وآرائي! حسن اعترافك هذا، ليس هناك من إنسان يقدر بأن يرجع من تلقاء نفسه إلى الله. هل تعلمت هذه النقطة الواحدة من عظتنا؟ ما هو اسم النبي : هوشع أي الله هو المخلص. وبعد نحو 800 سنة من أيام النبي هوشع وبعد أن حدثت أمور محزنة للغاية في البلاد المقدسة جاء كلمة الله إلى عالمنا وأعطي اسم يسوع أي الله هو مخلصنا. لقد جاء السيد المسيح المخلص لحل مشكلة الخطية فتعذب عنا ومات عوضا عنا لكي نستطيع أن نرجع إلى الله. آمن بالمسيح يسوع أي بالمخلص؟ وأصغ معي إلى هذه الكلمات العذبة عن التائبين إلى الله والتي نستقيها من نهاية سفر نبوة هوشع " «أَنَا أَشْفِي ارْتِدَادَهُمْ. أُحِبُّهُمْ فَضْلاً لأَنَّ غَضَبِي قَدِ ارْتَدَّ عَنْهُ. 5أَكُونُ لإِسْرَائِيلَ كَالنَّدَى. يُزْهِرُ كَالسَّوْسَنِ وَيَضْرِبُ أُصُولَهُ كَلُبْنَانَ. 6تَمْتَدُّ خَرَاعِيبُهُ وَيَكُونُ بَهَاؤُهُ كَالزَّيْتُونَةِ وَلَهُ رَائِحَةٌ كَلُبْنَانَ. 7يَعُودُ السَّاكِنُونَ فِي ظِلِّهِ يُحْيُونَ حِنْطَةً وَيُزْهِرُونَ كَجَفْنَةٍ. يَكُونُ ذِكْرُهُمْ كَخَمْرِ لُبْنَانَ. 8يَقُولُ أَفْرَايِمُ : مَا لِي أيضاً وَلِلأَصْنَامِ؟ أَنَا قَدْ أَجَبْتُ فَأُلاَحِظُهُ. أَنَا كَسَرْوَةٍ خَضْرَاءَ. مِنْ قِبَلِي يُوجَدُ ثَمَرُكِ». 9مَنْ هو حَكِيمٌ حَتَّى يَفْهَمَ هَذِهِ الأمور وَفَهِيمٌ حَتَّى يَعْرِفَهَا؟ فَإِنَّ طُرُقَ الرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ وَالأَبْرَارَ يَسْلُكُونَ فِيهَا. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَيَعْثُرُونَ فِيهَا " آمين.

لمزيد من الفائدة والإضطلاع على موضوعات مشابهة، الرجاء زيارة موقع كلمة الحياة.

 

  • عدد الزيارات: 2867