الله واحد في ثلاثة أقانيم - الثالوث الأقدس
الثالوث الأقدس
مما تقدم نرى أن الله أعلن ذاته في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، إلهاً واحداً لا نظير له ولا شريك في ثلاثة أقانيم: الآب والابن والروح القدس. الآب هو الله، والابن هو الله، والروح القدس هو الله، لا ثلاثة آلهة بل إله واحد، ذات واحدة، جوهر واحد، لاهوت واحد. ولكن ثلاثة أقانيم متحدون بغير امتزاج ومتميزون بغير انفصال. وكل أقنوم أزلي، أبدي، غير محـدود، لا يتحيز بمكان أو زمان، كلي العلم، كلي القدرة، كلي السلطان، لأن الأقانيم ذات واحدة.
وكلمة "أقانيم" كلمة سريانية، وهي الوحيدة في كل لغات العالم التي تستطيع أن تعطي هذا المعنى، أي تميز مع عدم الانفصال أو الاستقلال. لأنه بما أن الله لا شبيه له بين كل الكائنات، وبما أن لغات البشر إنما تصف الكائنات المحدودة، فلا توجد فيها كلمة تعطينا وصفاً للذات الإلهية بحسب الإعلان الإلهي. وبهذه المناسبة أقول أنه لا يجوز بالمرة تشبيه الله الواحد من جهة أقانيمه الثلاثة بتشبيهات من الكائنات كالشمس وغيرها لأن كل الكائنات محدودة ومركبة، والله غير محـدود ولا تركيب فيه وقد استعمـلت بعض اللغات كالإنجليـزية كلمـة "شخص" للتعبير عن الأقنــوم ولكن كل شخص كائن مركب والله لا تركيــب فيه، والأشخاص المتميزون منفصلون، ومهما تماثلوا لا يمكن أن يتعادلوا تماماً أو يتّحدوا. أما كلمة أقانيم فتعني شخصيات متميزة، ولكن متحدة (بغير امتزاج) وهم ذات واحدة. وربما تكون أقرب كلمة عربية لمدلول الأقانيم هي كلمة "تعينات".
هل هذا معقول؟
تبدو هذه الحقيقة معقدة فعلاً وصعبة الاستيعاب، ولكن أليس هذا دليلاً واضحاً على صحتها وعلى أن الله نفسه هو الذي أعلن ذاته بها؟ لأن الإنسان إذا أراد أن يزيف إيماناً أو يصنعه فإنما يصنعه وفق الفطـرة البشرية وفي مستوى العقـل ليسهـل قبـوله واستيعابه. أما إذا كان الأمر خاصاً بحقيقة الله غير المحدود فلا بد أن يكون الإعلان كبيراً فوق الفهم الطبيعي، وأسمى من العقل ولكن لا يتعارض معه، ليكون المجال لقبول الإعلان الإلهي، للإيمان ولنور الله في القلب كما يقول الكتاب المقدس أن "الإنسان الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ (أي في ما لروح الله) رُوحِيّاً"(1كورنثوس 2: 14).
فالإيمان بإعلان الله عن ذاته ثالوثاً، وإن كان يبدو صعباً، ولكنه معقول، بل هو المعقول لأننا سبق أن رأينا أن الوحدانية المطلقة لا تليق بالله لأنها تقتضي تنـزيهه عن الصفات والعلاقات. ولكن بما أن الله ذات فهو يتصف بصفات وله علاقات. ولكن بما أنه وحده الأزلي فلم يكن غيره في الأزل ليمارس معه الصفات والعلاقات. وبناء عليه تكون صفاته وعلاقاته عاطلة في الأزل ثم صارت عاملة بعد خلق الكائنات، وحاشا أن يكون الأمر كذلك لأن الله منـزه عن التغير، وهو مكتف بذاته، مستغن عن مخلوقاته. إذن لابد أن الله كان يمارس علاقاته وصفاته في الأزل مع ذاته لأن لا شريك له تركيب فيه. ولا بد في هذه الحالة من الاعتراف بأن وحدانيته جامعة، أي جامعة لتعينات الذات الواحدة، لأن من لا تعين له لا وجود له.
ولا تناقص بين الوحدانية والتعينات لأن الله واحد في جوهره وجامع في تعيناته، لأنه يمارس صفاته وعلاقاته مع ذاته بالفعل منذ الأزل، مع تعيناته وليس مع صفاته لأن الصفات معان، وليست تعينات عاقلة يمكن التعامل معها. فلا يقال مثلاً أن الله كان في الأزل يكلم صفاته ويسمعها ويبصرها ويحبها، أو أن صفاته كانت تكلمه وتبصره وتحبه ولكن نقرأ في الكتاب المقدس أن الابن يحب الآب، والآب يحب الابن قبل إنشاء العالم، والروح القدس هو "روح المحبة". وكانت هناك مشورة في الأزل بين الأقانيم الثلاثة.
ولابد من الإقرار بتعينات الله وإلا جعلناه جوهراً غامضاً لا يمكن الاتصال به أو معرفة شيء عنه بينما يتفق الجميع على أنه تكلم مع موسى ومع إبراهيم وأظهر ذاته للأنبياء. ووجود التعينات في الله لا يمس وحدانيته كما قلنا لأن التعينات هم ذات الله وليسوا أجزاء من ذاته، حاشا. بل ذات واحدة، جوهر واحد، لاهوت واحد.
لاشك أن هذه الحقيقة فوق الإدراك البشرى لأنه لا شبيه لهذه الوحدانية في الكائنات المنظورة ولكن هذه الحقيقة لا تتعارض مع العقل بل هي معقولة. وقد شهد بمعقوليتها كثيرون من الفلاسفة الموحدين الذين تعمقوا في البحث.
أراء بعض الفلاسفة الموحدين في نوع وحدانية الله، وفي الأقانيم:
قال الإمام الغزالي في كتابه "الرد الجميل" المشار إليه في كتاب "تاريخ الفلسفة في الإسلام" صفحة 196 : "يعتقد النصارى أن ذات الباري واحدة في الجوهر، ولها اعتبارات. والحاصل من هذا التعبير الاصطلاحي أن الذات الإلهية عندهم واحدة في الجوهر وإن تكن منعوتة بصفات الأقانيم".
وقال الشيخ أبو الخير الطيب في كتابه "أصول الدين" صفحة 153: "أقوال علماء النصارى تشهد بتوحيدهم، لأنهم يقولون أن الباري تعالى جوهر واحد موصوف بالكمال، وله ثلاث خواص ذاتية كشف المسيح النقاب عنها وهي: الآب والابن والروح القدس. ويريدون بالجوهر هنا ما قام بنفسه مستغنياً عن الظروف".
هاتان الشهادتان عن الإيمان المسيحي قريبتان من الصحة. غير أنهما قالا عن الأقانيم أنهم "اعتبارات" أو "صفات"وهذا نقلوه عن بعض فلاسفة المسيحيين دون الرجوع إلى الكتاب المقدس.
وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتابه "الطمس في القواعد الخمس". "وإذا أمعنا النظر في قول النصارى أن الله جوهر واحد وثلاثة أقانيم لا نجد بينهم وبيننا اختلافاً إلا في اللفظ فقط. فهم يقولون أنه جوهر ولكن ليس كالجواهر المخلوقة ويريدون بذلك أنه قائم بذاته، والمعنى صحيح ولكن العبارة فاسدة".
ولكن الواقع أنه لا فساد في العبارة، فقد شهد كثيرون من العلماء والفلاسفة أنه يمكن إطلاق كلمة "جوهر" على الله. فقد قال مثلاً الإمام جعفر بن محمد الأشعبي: "يتعين أن يكون الله جوهراً، أو جوهراً مع سلامة المعنى". وقد جاءت كلمة "جوهر" مرة واحدة في الكتاب المقدس عن المسيح "الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ" (عبرانيين 1: 3).
وجاء في كتاب العقائد النسفية صفحة 162 "لا مخالف في مسألة توحيد واجب الوجود إلا الثنوية (أي الذين يعتقدون بإلهين: واحد للخير وآخر للشر) دون النصارى" أي أن النصارى موحِّدون.
وقال ابن سينا "الله علم وعالم ومعلوم، وعقل وعاقل ومعقول، ومحبة ومحب ومحبوب". وجاء في مجلة كلية الآداب الصادرة في مايو سنة 1934، وفي كتاب نصوص الحكم للفيلسوف محيي الدين العربي (صفحات 133، 134، 225، 226) ما يأتي "إن أول صورة تعينت فيها الذات الإلهية كانت ثلاثية، وذلك لأن التعيين كان في صورة العلم حيث: العلم والعالم والمعلوم حقيقة واحدة. كما أن أول حضرة إلهية ظهر فيها الله كانت ثلاثية لأنها حضرة الذات الإلهية المتصفة بجميع الأسماء والصفات. فضلاً عن ذلك فإن عملية الخلق نفسها تقتضي وجود الذات الإلهية، والإرادة، والقول: "كن". فالتثليث هو إذن المحور الذي تدور حوله رحى الوجود وهو الشرط الأساسي في تحقيق الإيجاد. والخلق".
وقد أنشد الفيلسوف محيي الدين العربي في حب الله قائلاً:
"تثليث محبوبي وقد كان واحداً كما صير الأقنام بالذات أقنما"
ولا يقصد هذا الفيلسوف بهذا الشعر وبأقواله السابقة أن يؤيد العقيدة المسيحية لأنه كان من المسلمين المتمسكيـن، ولكنه أراد أن يعلن أن الله كان يظـهر دائما في ثالوث هـو "العلم والعالم والمعلوم ". أو "الذات والإرادة والكلمة". ويقصد أن مجرد اتصاف الله بصفات وقيامه بأعمال دليل على أنه تعالى ليس أقنوماً واحداً بل أقانيم.
وقال نفس هذا الفيلسوف "إن الله هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وعين ما ظهر وعين ما بطن فالأمر حيرة في حيرة. واحد في كثرة، وكثرة مردها إلى واحد ".
وقال ابن الفارض "الحمد لله الذي تجلى بذاته، فأظهر حقائق أسمائه وصفاته، فجعلها أعيانا ثابتة وحقائق عينية".
وقال الشيخ البيجوري "الحاصل أن الوحدانية الشاملة هي وحدانية الذات، ووحدانية الصفات، ووحدانية الأفعال".
وقال صاحب التحقيق "أرى الكثرة في الواحد. وإن اختلفت حقائقها وكثرت فإنها عين واحدة. فهذه كثرة معقولة في واحد العين".
وقال الإمام الغزالي "من ذهب إلى أن الله لا يعقل نفسه إنما خاف من لزوم الكثرة". ثم قال "إن كان عقل الله ذاته فيرجع الكل إلى ذاته فلا كثرة إذن. وإن كانت هذه كثرة فهي موجودة في الأول"(أي أنها أصلية في الله أزلاً).
وقال الأستاذ عباس محمود العقاد في شرحه لاعتقاد المسيحييـن فـي ذات الله (كتاب الله صفحة 171) "إن الأقانيم جوهر واحد. وإن "الكلمة " و"الآب" وجود واحد، وإنك حين تقول "الآب" لا تدل عن ذات منفصلة عن "الابن" لأنه لا انفصال ولا تركيب في الذات الإلهية".
- عدد الزيارات: 36117