Skip to main content

الله يعتني بشعبه في سيناء

كان موسى يعرف برية سيناء معرفة جيدة. كان يعرف طبيعتها القاحلة الجافة، فكيف يمكن أن يسافر هذا الشعب الكثير الذي يبلغ عدده نحو مليونين ونصف وسط هذه الصحراء؟ لا شك أن موسى كان يعلم أن الله هو الذي أمر بخروج شعبه، ولا بد أنه يقوت هذا العدد الكبير، ويعتني به بمعجزاته العظيمة. كان عمود السحاب نهاراً وعمود النار ليلاً يرافقان بني إسرائيل، وهذا يعني أن الله موجود وحَيّ، يعتني بالذين يضعون ثقتهم فيه.

وبعد أن عبر بنو إسرائيل البحر الأحمر، ساروا ثلاثة أيام في الصحراء، ولم يجدوا ماءً. لا شك أن اليوم الأول كان متعباً كئيباً، قابلتهم فيه العواصف الرملية، ولم يجدوا ظلاً ولا أشجاراً ولا ماءً. ثم أن الماء الذي حملوه في قِرَبهم لا بد أنه صار ساخناً، أو كاد ينتهي.

وفي اليوم الثاني صارت المياه التي حملوها شحيحة، إن لم تكن قد فرغت تماماً. وما إن حل اليوم الثالث حتى شجع موسى الشعب على الصبر والمثابرة، عالماً أن هناك بعض برك على مسافة قريبة، لأن أشجار نخيل وخضرة تظهر على بُعد في الأفق. لكن ما إن وصل الشعب إليها حتى اكتشفوا أن ذلك الماء مر، فدعوا اسم المكان »مارة«. وأخذوا يتذمرون على موسى قائلين: »ماذا نشرب؟«. لقد كانت خيبة أمل شديدة للشعب، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا ضعاف الإيمان، فما أسرع ما نسوا أعمال الله معهم، وتحولوا إلى عصاة متمردين بعد أن كانوا مترنمين هاتفين (خروج 15:22 - 26).

ألا نعرف نحن كلنا هذا الاختبار نفسه؟ إننا نفرح بخلاص الله. لكن ما إن يسمح الرب لنا أن نمر في ظروف صعبة حتى نصرخ متذمرين. وبعد أن تذمر الشعب على موسى صرخ موسى إلى الله.

ألا ترى أن التجاء موسى إلى الله كان أفضل من أن يوبخ الشعب، أو أن يتنحَّى عن الخدمة التي كلفه الله بها، أو أن يجلس في يأس وفشل حزين القلب، لأن هؤلاء الناس الذين رأوا عناية الله قد أسرعوا ونسوا هذا كله؟ وهنا أرشد الله موسى إلى شجرة أخذها وطرحها في الماء، فصار الماء عذباً.

الشجرة التي تُصلح:

أؤكد لك أن بجوار كل مكان به ماء مُرّ تنمو شجرة تصلح مراره. إذا ألقيتها في الماء يصير حلو المذاق. بجوار السم يوجد الدواء، وبجوار العدوى يوجد الشفاء، وبجوار الألم يوجد العلاج. عندما نصرخ إلى الله في يأس وألم نسمعه يقول لنا: »تكفيك نعمتي« (2كورنثوس 12:9). إن هناك نعمة كافية عند الرب لتسدد كل إعوازنا. لا داعي لليأس، فإن عناية الله عظيمة وحقيقية. لا تحزن إن قدمت لك الحياة كأساً مراً، فإن الله موجود.

إلى ماذا ترمز تلك الشجرة التي ألقاها موسى في الماء المر فصار عذباً؟ الإجابة: إنها تشير إلى صليب السيد المسيح، الذي تم عليه فداؤنا. إنّه هو الذي يحوّل هلاكنا إلى نجاة، لأنه حمل خطايانا على الصليب. لنسمع ما قاله نبي الله إشعياء قبل صليب المسيح بسبعمئة سنة، وهو يتنبأ عنه، قال: »هُوَ مَجْرُوحٌ لِأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لِأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلَامِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا« (إشعياء 53:5، 6).

لقد تعلم موسى دروساً كثيرة عن محبة الله وقدرته يوماً بعد يوم، ولا عجب أن قال المرنم عنه: »عَرَّفَ مُوسَى طُرُقَهُ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ أَفْعَالَهُ« (مزمور 103:7). وأنت في كل يوم تتعامل مع الله تدرك محبته أكثر. فلنستمعْ إلى نصيحة التوراة المقدسة: »فِي كُلِّ طُرُقِكَ اعْرِفْهُ وَهُوَ يُقَوِّمُ سُبُلَكَ« (أمثال 3:6).

وبعد أن رحل بنو إسرائيل من مارة وصلوا إلى مكان اسمه إيليم، حيث وجدوا اثنتي عشرة عين ماء وسبعين نخلة. فنزلوا هناك عند الماء (خروج 15:27).

بعد كل شتاء طويل لا بد أن تظهر زهور الربيع. إن كنت اليوم في مارة، أؤكد لك أن خيراً ينتظرك على مقربة منك. فقُل لنفسك: »يَا نَفْسِي، تَرَجَّيِ اللّهَ لِأَنِّي بَعْدُ أَحْمَدُهُ، خَلَاصَ وَجْهِي وَإِلهِي« (مزمور 42:11). إن وسيلة النجاة موجودة أمامك، وإن كنت لا تراها. لا تيأس أبداً من رحمة الله.

التذمر خطية كبيرة:

بعد مارة جاء بنو إسرائيل إلى مكان اسمه إيليم، وهناك وجدوا اثنتي عشرة عين ماء وسبعين نخلة، فنزلوا هناك وأقاموا عند الماء. لكن لا بد أن يرتحلوا، فساروا في الصحراء إلى برية سين. وهنا بدأ الشعب يتذمرون على موسى وهارون وقالوا: »لَيْتَنَا مُتْنَا بِيَدِ الرَّبِّ فِي أَرْضِ مِصْرَ، إِذْ كُنَّا جَالِسِينَ عِنْدَ قُدُورِ اللَّحْمِ نَأْكُلُ خُبْزاً لِلشَّبَعِ! فَإِنَّكُمَا أَخْرَجْتُمَانَا إِلَى هذَا الْقَفْرِ لِتُمِيتَا كُلَّ هذَا الْجُمْهُورِ بِالْجُوعِ« (خروج 16:1 -3).

لا يجب أن نلوم بني إسرائيل، فإننا نحن الذين نتمتع بالكثير من خيرات الله وبركاته نتصرف التصرف نفسه، فنتذمر على الله. بل إننا كثيراً ما نجد الناس الذين نخدمهم يتذمرون علينا باستمرار. إن كنت أباً فإنك تعلم أن أولادك يتذمرون عليك، مع أنك تحبهم وتعمل كل ما تستطيع لتوفر لهم أساليب الراحة. إن سلسلة التذمر لا تنقطع، فالشفاه التي تشترك في ترانيم التسابيح تشكو في بعض الأحيان. كم مرة تختلط تذمراتنا بالطعام الذي نأكله لأننا لا نرضى عليه فنتذمر على نوعه أو على طريقة تجهيزه، وحتى على الذي جهّزه! وكثيراً ما نتذمر على الطقس لأنه لا يتناسب مع الخطط التي رسمناها لأنفسنا. وما أكثر ما نتذمر بسبب أعمالنا اليومية لأنها متعبة أو مملة. إنّ التذمر خطية شديدة نقع فيها كلنا، وعلينا أن نتعلم الشكر لله والتسبيح له دائماً.

تذمر بنو إسرائيل على موسى لأنه أخرجهم من أرض مصر حيث كانوا يأكلون لحماً وخبزاً. ونحن نرى أن المتذمرين كثيرو النسيان. فالإنسان الذي يتذمر على الله هو الذي نسي بركات الله، لذلك يقول المرنم: »بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَلَا تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ« (مزمور 103:2). لم يكن قد مضى أكثر من شهر واحد على خروج بني إسرائيل من مصر حتى تذمروا على موسى. لقد نسوا السياط وسوء العذاب الذي كانوا يلاقونه في مصر، وذكروا فقط الطعام الذي كانوا يأكلونه هناك.

عندما نتذمر على الله وعلى الآخرين فإن هذا يعني أننا كثيرو النسيان، نسينا البركة التي قدمها الله لنا والخدمة التي قدمها الآخرون إلينا. ولم نعد نذكر إلا الأشياء السيئة. يجب أن نتخلص من خطية التذمر، ولنتذكر قول المرنم: »أَذْكُرُ أَعْمَالَ الرَّبِّ إِذْ أَتَذَكَّرُ عَجَائِبَكَ مُنْذُ الْقِدَمِ« (مزمور 77:11).

والذين يتذمرون قصيرو النظر. إنهم لا يستطيعون أن يروا عناية الله من خلف الظروف الصعبة التي يمرون بها. إن كل ما يركزون عليه هو الضيق الذي يواجهونه للتوِّ واللحظة، لكنهم لا يدركون أن محبة اللّه خلف الغيوم وخلف المتاعب، وأن يد اللّه تمتد إلينا حتى لو كنا لا نراها، بسبب الدموع التي تملأ عيوننا. لا بد أن اللّه من وراء كل شيء يأمر به أو يسمح به. فلا يجب أن نتذمر، لأن تذمرنا معناه الاحتجاج على اللّه الذي يعرف كل أمورنا. إن التذمر والشكوى موجَّهان ضد اللّه وضد إرادته وتدبيره، وعلاج ذلك أن نقبل كل شيء من يده، ونرضى بما يرتبه لنا بحكمته، مؤمنين بأنه يستطيع أن يستخرج منه أفضل النتائج.

والمتذمرون قليلو الإِيمان. لقد واجه بنو إسرائيل في الصحراء مشكلة نقص الخبز ونقص اللحم. وبدأوا يحسون أن ما جاءوا به من طعام سوف لا يكفيهم إلا لفترة وجيزة. فجاءوا لموسى متذمرين. لقد نسوا أن اللّه في محبته سوف يدبّر لهم كل شيء. إن المتذمرين قليلو الإِيمان، لا يدركون أن يد اللّه سوف تمتد بسرعة لتنقذهم من الضيق الذي هم فيه، فتخور عزائمهم إلى درجة اليأس، بسبب ما يخافون منه، ويتذمرون لئلا يهلكوا، مع أنهم لو تأملوا لحظة واحدة لرأوا أن اللّه يعتني بهم. لماذا تتذمر؟ لأنك تشك. ولماذا تشك؟ لأنك تتطلع إلى المستقبل بعيداً عن اللّه.

المن والسلوى:

عندما سمع اللّه تذمر بني إسرائيل قال لموسى: »هَا أَنَا أُمْطِرُ لَكُمْ خُبْزاً مِنَ السَّمَاءِ! فَيَخْرُجُ الشَّعْبُ وَيَلْتَقِطُونَ حَاجَةَ الْيَوْمِ بِيَوْمِهَا. لِأَمْتَحِنَهُمْ، أَيَسْلُكُونَ فِي نَامُوسِي أَمْ لَا؟« (خروج 16:4).

ما أروع هذه الكلمات: »ها أنا أمطر لكم خبزاً من السماء«. وأخبر موسى وهارون الشعب أن الرب سيمجِّد ذاته في المساء والصباح. لم يكن تذمر الشعب تذمراً على موسى وهارون، إنما كان على الرب. ثم قال موسى إن الرب سيعطيهم لحماً في المساء وخبزاً في الصباح. وطلب موسى إلى هارون أن يجمع كل جمهور الشعب، ليخبرهم بأمر هذا الطعام.

وبغتةً رأى الشعب أن مجد الرب قد ظهر، ومن المجد قال الرب إنه سمع تذمر الشعب، لذلك سيعطيهم لحماً في المساء وخبزاً في الصباح. في ذلك المساء نفسه توافدت أسراب طيور السلوى وغطت المعسكر كله. وفي الصباح بعد أن ارتفع سقيط الندى شاهد الشعب شيئاً دقيقاً كقشور الجليد فقالوا: منا. وهي كلمة عبرانية معناها: »من هو؟« فأخبرهم موسى أن هذا هو الخبز الذي وعدهم به الرب. وطلب منهم أن يلتقطوا حوالي كيلة لكل عائلة، ولا يبقوا شيئاً منه إلى اليوم التالي، لأن اللّه سيعطيهم في اليوم التالي أكثر منه. وفي كل صباح سوف يعطيهم هذا المن.

لم يؤمن بعض بني إسرائيل بأن الرب سيظل يزوِّدهم بالمن يوماً بعد يوم، فحاولوا أن يخزنوا منه شيئاً لليوم التالي، فربما لا يعطيهم اللّه في اليوم التالي، فكان أن ابتلاه الفساد في الليل. وغضب موسى على هؤلاء الذين لم يؤمنوا غضباً شديداً (خروج 16:19، 20).

وجمع بنو إسرائيل في اليوم السادس من المن ضعف ما اعتادوا أن يجمعوه في كل يوم، لأن يوم السبت كان يوم راحة لا ينزل فيه المن، ولا يجمع الشعب فيه شيئاً. وطلب موسى من بني إسرائيل أن يخبزوا المن أو يطبخوه فيظل صالحاً ليوم السبت. وكان هدف الرب أن يعوِّد شعبه على تقديس يوم الرب.

وبالرغم من ذلك فإن بعض أفراد الشعب، بسبب عدم إيمانهم، خرجوا يوم السبت ليلتقطوا المن، فلم يجدوا شيئاً. ورأى الرب ذلك فأمرهم أن يستريحوا في يوم السبت. وكان المن يشبه بذر الكزبرة، لونه أبيض، وطعمه كرقاقٍ بعسل (خروج 16:31).

ما أجمل أن نرى محبة اللّه تزوّد البشر بما يحتاجون إليه. ولكننا في الوقت الذي نرى فيه محبة اللّه التي لا تتغير، نرى عصيان الشعب المستمر. إن إحسان اللّه لنا أعظم بكثير من ذلك المن الذي أعطاه لشعبه في البرية قديماً، فيجب أن نحب اللّه وأن نطيعه أكثر، وأن نُخْلِص له وأن نبتعد عن التذمر.

ثم أمر الرب موسى أن يأخذ إناءً من ذهب يملأه بالمن، لتذكر أجيالهم القادمة كيف أطعم اللّه آباءهم في الصحراء. ولقد وُضع هذا الإِناء فيما بعد في تابوت العهد، مع لوحي الحجر اللذين كتب اللّه عليهما شريعته، كما أودعوا في ذلك التابوت عصا هارون التي أفرخت. ولقد دُعي المن في سفر المزامير بأنه »خبز الملائكة« بمعنى أنه طعام عظيم ملائكي. ويشتمل هذا المزمور الثامن والسبعون على موجز لمعاملات الرب مع شعبه: »قُدَّامَ آبَائِهِمْ صَنَعَ أُعْجُوبَةً فِي أَرْضِ مِصْرَ بِلَادِ صُوعَنَ. شَقَّ الْبَحْرَ فَعَبَّرَهُمْ، وَنَصَبَ الْمِيَاهَ كَنَدٍّ. وَهَدَاهُمْ بِالسَّحَابِ نَهَاراً، وَاللَّيْلَ كُلَّهُ بِنُورِ نَارٍ. شَقَّ صُخُوراً فِي الْبَرِّيَّةِ وَسَقَاهُمْ، كَأَنَّهُ مِنْ لُجَجٍ عَظِيمَةٍ... َأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ مَنّاً لِلْأَكْلِ، وَبُرَّ السَّمَاءِ أَعْطَاهُمْ. أَكَلَ الْإِنْسَانُ خُبْزَ الْمَلَائِكَةِ. أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ زَاداً لِلشِّبَعِ« (مزمور 78:12 - 25).

في هذه القصةِ الرائعة التي رأينا فيها عناية اللّه بشعبه، إذ أرسل إليهم المن في الصباح والسلوى في المساء، نرى أن اللّه هو مصدر سد إعوازنا كلها. تطلع إلى فوق، إلى يد الآب السماوي التي تعطيك بغنى وسخاء.

ونتعلم من هذه القصة أننا يجب أن نتغذى بخبز السماء كل يوم. في الصباح الباكر عليك أن تبدأ يومك بالصلاة والتأمل في كلمة اللّه. لا تترك فرصة الحديث المبكر مع اللّه في مطلع كل يوم. فكما كان بنو إسرائيل يلتقطون المن مبكرين كل صباح، فإذا حميت الشمس كان المن يذوب، عليك أن تتعلم أن تبدأ يومك في صحبة اللّه، تتحدث إليه ليشبع قلبك وليشجع نفسك.

إن التغذية الحقيقية للمؤمن هي بكلمة الرب، التي يقول عنها النبي إرميا: »وُجِدَ كَلَامُكَ فَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ كَلَامُكَ لِي لِلْفَرَحِ وَلِبَهْجَةِ قَلْبِي« (إرميا 15:16). إن كلمة اللّه هي الغذاء اليومي للمؤمنين، فإنه »لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الْإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللّهِ« (متى 4:4).

ولا يجب أن نختم حديثنا هذا دون أن نشير إلى ما قاله السيد المسيح عن المن. قال: »اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا. هذَا هُوَ الْخُبْزُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الْإِنْسَانُ وَلَا يَمُوتَ. أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الْأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ« (يوحنا 6:47 - 51). ندعوك أن تتعرف على السيد المسيح، وأن ترتوي بماء نهر نعمته، وأن تشبع به هو.

الماء من الصخرة في رفيديم:

سافر بنو إسرائيل من برية سين، ونزلوا في مكان اسمه رفيديم. ولم يجد الشعب هناك ماء ليشربوا، فابتدأوا يتذمرون مرة أخرى على موسى وهارون وقالوا: »أَعْطُونَا مَاءً لِنَشْرَبَ!« فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: »لِمَاذَا تُخَاصِمُونَنِي؟ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ الرَّبَّ؟« وَعَطِشَ هُنَاكَ الشَّعْبُ إِلَى الْمَاءِ، وَتَذَمَّرَ الشَّعْبُ عَلَى مُوسَى وَقَالُوا: »لِمَاذَا أَصْعَدْتَنَا مِنْ مِصْرَ لِتُمِيتَنَا وَأَوْلَادَنَا وَمَوَاشِيَنَا بِالْعَطَشِ؟« فَصَرَخَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ: »مَاذَا أَفْعَلُ بِهذَا الشَّعْبِ؟ بَعْدَ قَلِيلٍ يَرْجُمُونَنِي!« فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: »مُرَّ قُدَّامَ الشَّعْبِ وَخُذْ مَعَكَ مِنْ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ. وَعَصَاكَ الَّتِي ضَرَبْتَ بِهَا النَّهْرَ خُذْهَا فِي يَدِكَ وَاذْهَبْ. هَا أَنَا أَقِفُ أَمَامَكَ هُنَاكَ عَلَى الصَّخْرَةِ فِي حُورِيبَ، فَتَضْرِبُ الصَّخْرَةَ فَيَخْرُجُ مِنْهَا مَاءٌ لِيَشْرَبَ الشَّعْبُ«. ففعل موسى هكذا أمام شيوخ بني إسرائيل. ضرب الصخرة بعصاه، فأخرج اللّه الماء من الصخرة، وأروى الشعب كله (خروج 17:1 - 7).

في رفيديم تعلم كليم اللّه موسى درساً عظيماً هو أن قوته محدودة. كثيراً ما يتجرب القائد بأن يحسب نفسه أنه شيء، إذ ينجح يوماً بعد يوم في مواجهة المشكلات التي تعترض طريقه. ولكن اللّه يوقظ القائد ليعلِّمه أن النجاح هو من الرب وحده، وأن القائد بدون الرب عاجز تماماً عن أن يفعل شيئاً. وما أجمل ما قاله نبي اللّه إشعياء: »هَلْ تَفْتَخِرُ الْفَأْسُ عَلَى الْقَاطِعِ بِهَا، أَوْ يَتَكَبَّرُ الْمِنْشَارُ عَلَى مُرَدِّدِهِ؟ كَأَنَّ الْقَضِيبَ يُحَرِّكُ رَافِعَهُ؟« (إشعياء 10:15). إن اللّه هو الذي يمسك الفأس، والذي يردد المنشار، والذي يرفع القضيب. وما نحن إلا فؤوس بين يدي الرب - علينا أن نسلِّم أنفسنا له، ليصنع بنا ومنا الخدمة التي يريدها.

أيها القارئ الكريم، إن كان اللّه قد وضعك في مكان قيادة، فأرجوك أن تدرك أن القائد الحقيقي هو اللّه. وكلما سلَّمت نفسك له، وأخضعت إرادتك لإرادته وُفِّقت فيما تفعل. هل أنت أب تعمل ليل نهار لتكسب رزق أولادك، لتوفر لهم العيش الكريم؟ إن اللّه من وراء عقلك ومن وراء ساعديك، يساعدك. هو الذي يعطيك ما تقتات به، وما يقتات به أولادك. وعليك أن تمثُل أمامه في خضوع حقيقي، تطلب منه الهداية والإِرشاد اليومي لك، لأنه مصدر صحتك، ورزقك، وكل خير تتمتع به.

على أننا نلمس كيف أن بني إسرائيل تذمروا على قائدهم الذي خدمهم، ولكنه بالرغم من تذمرهم ظل يخدمهم. فإن كنت تقدم خدمة للمجتمع المحيط بك، وتجد أن هذا المجتمع لا يعترف لك بفضل، بل بالحري تراه دائم التذمر عليك، فتعلم من موسى كليم الله درساً، أن تستمر في خدمتك، لأن الله هو الذي كلفك بها.

وفي رفيديم تعلم موسى درساً عن طول أناة الله على شعبه المتذمر. لو أن الله أهلكنا بسبب خطايانا لما بقي منا إنسان واحد على الأرض. لكن الله في محبته يطيل أناته علينا. ولنستمع إلى ما يقوله رسول المسيحية بولس: »أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللّهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟« (رومية 2:4).

وتعلم موسى أن الله حاضر معه دائماً، قال له: »هَا أَنَا أَقِفُ أَمَامَكَ هُنَاكَ عَلَى الصَّخْرَةِ« (خروج 17:6). إن كنا نفعل شيئاً صالحاً فإن الله موجود معنا. هو مصدر كل عمل صالح نقوم به. لنستمع إلى ما يقوله لنا وهو يشجعنا - وهو نفس ما قاله لموسى: »لا تخف. أنا معك. لا ترهب أنا إلهك. لا يقع بك أحد ليؤذيك، لأني أنا معك لأنقذك. مُرّ قدام هذا الشعب. لن يؤذيك أحد. وهذه لك العلامة بأنني أنا فعلاً على الصخرة، أنها ستفيض ماءً«.

إن الله موجود معنا دائماً ومخازنه سرية. تضرب الصخرة فيخرج منها الماء. من يقول إن الصخرة تخرج ماء؟ لكن، أليس هذا هو ما لم تر عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على بال إنسان، ما أعده الله للذين يحبونه، فأعلنه الله لنا نحن بروحه؟ (1كورنثوس 2:9، 10). إن الله هو صخرنا الذي يستجيب صلاتنا ويمنحنا ما نحتاج إليه بالرغم من عدم استحقاقنا.

ويقول لنا الإنجيل المقدس إن بني إسرائيل كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح (1كورنثوس 10:4). إن المسيح هو الذي يروي عطش نفوسنا. فلنسمعه يتحدث مع المرأة السامرية عند بئر يعقوب قائلاً: »لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللّهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لِأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيّاً«. قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: »يَا سَيِّدُ، لَا دَلْوَ لَكَ وَالْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الْمَاءُ الْحَيُّ؟ أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ، الَّذِي أَعْطَانَا الْبِئْرَ، وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟« أَجَابَ يَسُوعُ: »كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الْأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّة« (يوحنا 4:10 - 14).

نصيحة يثرون:

وفي صباح اليوم التالي جلس موسى ليقضي للشعب، فوقف الشعب عند موسى من الصباح إلى المساء. ولما رأى يثرون ما يفعل موسى، قال له: »مَا هذَا الْأَمْرُ الَّذِي أَنْتَ صَانِعٌ لِلشَّعْبِ؟ مَا بَالُكَ جَالِساً وَحْدَكَ وَجَمِيعُ الشَّعْبِ وَاقِفٌ عِنْدَكَ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الْمَسَاءِ؟« فَقَالَ مُوسَى لِحَمِيهِ: »إِنَّ الشَّعْبَ يَأْتِي إِلَيَّ لِيَسْأَلَ اللّهَ. إِذَا كَانَ لَهُمْ دَعْوَى يَأْتُونَ إِلَيَّ فَأَقْضِي بَيْنَ الرَّجُلِ وَصَاحِبِهِ، وَأُعَرِّفُهُمْ فَرَائِضَ اللّهِ وَشَرَائِعَهُ«. فَقَالَ حَمُو مُوسَى لَهُ: »لَيْسَ جَيِّداً الْأَمْرُ الَّذِي أَنْتَ صَانِعٌ. إِنَّكَ تَكِلُّ أَنْتَ وَهذَا الشَّعْبُ الَّذِي مَعَكَ جَمِيعاً، لِأَنَّ الْأَمْرَ أَعْظَمُ مِنْكَ. لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصْنَعَهُ وَحْدَكَ. اَلْآنَ اسْمَعْ لِصَوْتِي فَأَنْصَحَكَ. فَلْيَكُنِ اللّهُ مَعَكَ. كُنْ أَنْتَ لِلشَّعْبِ أَمَامَ اللّهِ، وَقَدِّمْ أَنْتَ الدَّعَاوِيَ إِلَى اللّهِ، وَعَلِّمْهُمُ الْفَرَائِضَ وَالشَّرَائِعَ وَعَرِّفْهُمُ الطَّرِيقَ الَّذِي يَسْلُكُونَهُ وَالْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُونَهُ. وَأَنْتَ تَنْظُرُ مِنْ جَمِيعِ الشَّعْبِ ذَوِي قُدْرَةٍ خَائِفِينَ اللّهَ أُمَنَاءَ مُبْغِضِينَ الرَّشْوَةَ، وَتُقِيمُهُمْ عَلَيْهِمْ رُؤَسَاءَ أُلُوفٍ وَرُؤَسَاءَ مِئَاتٍ وَرُؤَسَاءَ خَمَاسِينَ وَرُؤَسَاءَ عَشَرَاتٍ، فَيَقْضُونَ لِلشَّعْبِ كُلَّ حِينٍ. وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ الدَّعَاوِي الْكَبِيرَةِ يَجِيئُونَ بِهَا إِلَيْكَ. وَكُلَّ الدَّعَاوِي الصَّغِيرَةِ يَقْضُونَ هُمْ فِيهَا. وَخَفِّفْ عَنْ نَفْسِكَ، فَهُمْ يَحْمِلُونَ مَعَكَ. إِنْ فَعَلْتَ هذَا الْأَمْرَ وَأَوْصَاكَ اللّهُ تَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ. وَكُلُّ هذَا الشَّعْبِ أَيْضاً يَأْتِي إِلَى مَكَانِهِ بِالسَّلَامِ« (خروج 18:14-23). وسُرَّ موسى كثيراً من نصيحة حميه، وسمع لكلامه، وفعل كما قال. فاختار موسى أصحاب مواهب من جميع بني إسرائيل ونصّبَهم مسئولين عن الشعب، فكانوا يقضون للشعب كل حين في الدعاوي الصغيرة. أما الدعاوي العسرة فكانوا يجيئون بها إلى موسى.

ما أجمل هذه الزيارة التي قام بها يثرون لزوج ابنته موسى. لقد قدَّم له نصيحة ثمينة، كما كان شجاعاً في انتقاده لزوج ابنته. كان فياضاً بالمحبة والحكمة في تقديم ذلك الانتقاد. لم يكن في انتقاده هدّاماً لكنه كان بانياً، لأنه ساعد موسى على تكوين قيادات مختلفة في الشعب، تكون قادرة على القيام بالعمل. وكان في ذلك حكيماً، لأنه شغَّل أصحاب الوزنات والمواهب والإمكانيات المدفونة. وكم من مواهب مدفونة، علينا أن نفتش عنها ونشغّلها! إن الإنسان الذي يستأثر بالخدمة كلها يزعج نفسه ويزعج غيره، ويحرم الآخرين من خدمة يحبون أن يقدموها لله ولإخوتهم من البشر. إن النصيحة التي قدمها يثرون إلى زوج ابنته موسى تعلِّمنا أننا يجب أن نُشرِك الآخرين في خدمة الله، وأن نعمل على تشجيعهم، على أن يقدموا ما يستطيعون أن يقدموه لعمل الخير للآخرين. ألا نوزع نحن جهودنا في دائرة متسعة جداً أكثر مما نتحمل؟ ألا نحاول أن نحتكر لأنفسنا خدمات كثيرة يمكن أن يقوم بها غيرنا كما نقوم بها نحن؟ إن نصيحة يثرون لزوج ابنته موسى نصيحة خليقة بأن نمارسها نحن أيضاً في حياتنا؟

  • عدد الزيارات: 5413